فشل الوحدة لا يحتاج إلى دليل أكثر من الشعار الشهير: “الوحدة أو الموت”. لأن الوحدة بمفاهيمها السياسية والحضارية والإنسانية لا تحتاج إلى الموت ولا تحتاج إلى القتل ولن تكون أبداً بحاجة إلى حرب. فأي وحدة تتبنى ذلك الشعار إنما هي ضرب من التصفية الوجودية لأحد الأطراف بغرض الاستيلاء بالإكراه والترهيب والقتل. واستمرارها بالقوة وبالموت والتشريد كارثة مستدامة، وتطبيق مبدأ قابيل، ودورات من الدماء والعنف، وستفشل في نهاية المطاف وتنتهي ولكن بعد أن يكون الشعبان قد هلكا ودفعا أثمان تفوق حسابات الجنون، ولبسا ثوب الفجيعة الأبدية التي ستلقي بعتمتها على عقول ونفوس الأجيال وتبقى عبرة لألف عام تُستولد منها أساطير الخوف.
الوحدة الحقيقية “إن كانت ضرورة” بحاجة إلى الكثير الذي لا يوجد في الواقع اليمني الصعب…إلى الكثير الذي لا يمكن تغليفه بالأغطية الوطنية والدينية والعاطفية، إلى الكثير الذي لا يفهمه قائد يرى في الوحدة توسيع لقاعدة حكمه وإنجاز شخصي يشبع طموحه ويرضي غرائزه، إلى الكثير الذي لا يعرفه رجل دين يسخّر كلام السماء من أجل سلطان دنيوي حقير، إلى الكثير الذي لم يطرأ حتى على فكر المثقف المتحزب أو المتعصب لمنشأه وجماعته وجهته… وإلى الكثير الذي لن تأتي به العقود القادمة.
اليمن يعيش مرحلة هي الأكثر دموية وتعقيد، وتهيمن عليه قوى دينية عقائدية مرتبطة مباشرة إما بالولاية الخمينية أو بالخلافة العثمانية المنتظرة، وتتخذ إحداهما على الأقل من إرث صراعات التاريخ بين أجنحة السقيفة والغدير أرضية لثقافتها.. ويتم تصنيف أفراد الشعب، الكادحين إلى خالقهم، وفقاً لنقاء الدم والسلالة عند طرف أو الانتماء للتنظيم الدولي عند الطرف الآخر.
تلك القوى الدينية ترى في الوحدة بالقوة جهاد في سبيل الله. فبعد أن شهد العالم اخراجات حرب ?? م وموجات القتل والتكفير وتقسيم المتحاربين إلى مؤمنين ومرتدين هاهو اليوم يستقبل إشارات رهيبة في مجريات التعبئة الأكثر تطرف. أي أن الجنوبيين المدافعين عن خياراتهم سيصبحون مرة أخرى “في مقام كفار قريش وقتالهم جهاد مقدس”، وبعد ربع قرن من التكفير رقم ? ما تزال الماكينة شغالة بأقصى درجاتها، وما يزال النهج الدموي باسم الدين سائد بقوة مع تعدد المذاهب والطوائف السياسية. وعليك أيها المتابع أن تتخيل صلابة موقف الجنوب الآن .. وقد رفض الوحدة قبل أن تصل الأوضاع إلى هذا الواقع الكارثي وبات على يقين بأنه لا يُهزم مرتين.
الشعارات التضليلية التي ترتكز على مفردة “التقسيم” يستخدمها جنود الفضاء من الإعلام المتحزب لإحداث صدمة للقارئ العربي الذي لا يمتلك معرفة حول جذور أزمة الوحدة اليمنية وتاريخ الدولتين لكن الحقيقة أن الشمال والجنوب سيصبحان أكثر قرب وسلام وتكامل حقيقي باستعادة دولتيهما إذا تعاملا مع الوضع المدمر الكارثي بواقعية شديدة. إستعادة الدولتين بكامل صحتهما وعافيتهما وعلاقتهما وروابطهما ليس تقسيم أو تجزئة أو إعادة رسم الخرائط أو انقلاب على واقع تاريخي أو العودة عن طريق الحق والعدل أو شيء من هذا القبيل. بل هو عودة الأمور إلى طبيعتها صوناً للدماء النازفة.
التقسيم الحقيقي هو ما يقوم به الحوثيون الذين يقسمون الارض إلى منطقة المنشأ ومحافظات (تابعات) ويقسمون البشر إلى سلالة مقدسة ورعاع وإلى رؤوس مرفوعة وأخرى منزوعة وإلى ظهور مسنودة وأخرى مجلودة.. والتقسيم هو ما يفعله تنظيم (الإخوان) الذي يقسم الناس إلى “إخوان مسلمين”، اصحاب البيعة للمرشد، وآخرين بلا معنى يتم تصنيفهم حسب توجهاتهم السياسية… ويقسمون المناطق حسب درجة سيطرتهم عليها ويقسمون الدول وفقاً لقربها أو بعدها عن مشروع السلطان العثماني، بين دول معصومة من الأذى وأخرى معادية يجب تخريبها من خلال الفتن والفوضى والإرهاب والاقتتال حتى تنهار ويتم السيطرة على خرائبها!
أليس هذا هو التقسيم الأبشع في التاريخ؟
أما القوميون حراس الأضرحة، أو الأخوة في سنة أولى ليبرالية، العالقون خلف زجاج واق من غبار الواقع، أو أهل الميديا والمراهقة الالكترونية… جميعهم لا يملكون شيء سوى دبيب الكلمات التي تتقاطع مع الشعارات الخادعة لتلك التنظيمات المهيمنة على المشهد، وتصب في طواحين الخطابات النمطية.
لكن عليك، في هذا السياق، أيها القارئ المتحفز لمعرفة المشهد كاملاً أن تعرج على أداء بعض (الزعامات الجنوبية القديمة) التي تظهر في المناسبات لأداء رقصة الفيلة “حسب التفانين” لا لكي تجر مواكباً إلى الأمام ولكن للانزلاق برشاقة إلى الخلف على طريقة (سحبة) الرفيق الراحل مايكل جاكسون. بالطبع حق الرأي مكفول للجميع لكن النقد جميل ومفيد للغاية لكي لا تختلط المفاهيم ويتم القفز على حقيقة أن “تقرير المصير حق لا يقبل التسويات السياسية”.
الوحدة أو الموت شعار باق لم يجرؤ مخترعوه أن يعدلوه أو ينعّموه عاطفياً أو حتى (يتكتكوه)، فهم هكذا تتناسل فيهم النوايا ويلعبون على المكشوف حتى وإن اختفت وجوه وأتت أخرى… لأن قيم الحياة والحضارة والإنسانية والشراكة لم تصلهم بعد فكيف يؤتمنون على الشعوب؟