الجدل الذي يدور حول ثورة فبراير ٢٠١١ اليمنية السلمية لا يحكمه منهج معتبر يمكن الاستناد إليه في تقييم موضوعي لهذا الحدث التاريخي الهام ..ما يدور مجرد تجاذبات يغلب عليها في كثير من الأحيان الحالة الانفعالية أو الباعث الشخصي الذي يدور في فلك اللحظة وتداعياتها .
والحقيقة أن ثورة فبراير ليست الأولى ، ولن تكون الأخيرة ، من بين الثورات الشعبية التاريخية التي تثير مثل هذا الجدل بين من يسعى إلى تشويهها في محاولات يائسة للدفاع عن أنظمة الاستبداد التي أغرقت الشعوب في الفساد والفقر والتخلف التي قامت هذه الثورات لتغييرها ، وبين من يتصدى للدفاع عنها من منظور لا يلتفت إلى حقيقة أن الحركات الاجتماعية الثورية لا تبقى ثورية إلا بمقدار ماتحققه من أهداف بنفس الأدوات التي أعلنتها ولنفس الغرض الذي تبنته .
يحاول البعض اليوم أن يسيء الى ثورة فبراير ، ضمن موجة الثأر الجارية والقراءة “نص – كم” لمسارها وما تلاها من متغيرات ، بتوظيف تعسفي للأحداث التي تمر بها البلاد .
يتحدث البعض وكأن ثورة فبراير هي المسئولة عن الحرب وتدهور الأوضاع الناشئة عنها ، بينما يعرف القاصي والداني أن المسئول عن هذه المأساة والفوضى في الأساس هو إنقلاب الغدر المليشاوي ضد الدولة ومشروعها الوطني ، ذلك المشروع الذي استخلصته هذه الثورة بكفاحية عالية من ركام اليأس والاحباط الذي وصلت إليه البلاد على أيدي تحالف هجين من أوليجاركية النظام السابق وأوتوقراطية سبق أن حكمت اليمن طويلا باستبداد لا مثيل ، وهو الهجين الذي استنزف البلد وأفقره ، ثم عمل على تدميره بروح المنتقم.
يتجاهل هؤلاء أن هذا الانقلاب المشئوم قد استهدف كل المعاني والاهداف النبيلة لهذه الثورة السلمية التي جسدتها تضحيات الشباب الضخمة في ميادين الحرية والتغيير ، وما حملته من أحلام للحركة الوطنية اليمنية ونضالاتها الطويلة ، وعبر عنها بعد ذلك الحوار الوطني في صيغة العقد الاجتماعي لبناء الدولة وحل القضايا العالقة المرتبطة بذلك.
أما بعض الذين يدافعون عنها بصورة إنتقائية ويذهبون إلى إدانة ما ارتبط بها من محطات مثل المبادرة الخليجية والحوار الوطني وينسون أنها كانت عملية ثورية سلمية تسعى إلى تحقيق أهدافها سلمياً فهؤلاء لا يختلفون كثيراً عن أقرانهم ممن لا يحتكمون إلى منهج موضوعي لتقييم هذا الحدث التاريخي الهام ، وجميعهم أصحاب قراءة (نص – كم ) لهذه الثورة .
لقد كانت هذه الثورة بمجملها عنواناً لتحول جذري في الفكر السياسي اليمني ، يعد العدة لإنتشال الحياة السياسية ، ونظمها الاجتماعية والسياسية ، من براثن الغلبة إلى الحوار والسلام والتعايش والديمقراطية ، ومن إرادوية النخب التي تعسفت المناهج الموضوعية في تسيير شئون البلاد الى تسوية تاريخية تعتمد الارادة الشعبية وخياراتها السياسية.
ليس من المعيب أن تكون هناك مراجعات من أي نوع كان ، وهو حق يتمتع به كل شخص وكل مجموعة ، لا سيما وأن صدمات عنيفة قد لحقت بالكثيرين ممن حلموا بالتغيير ، غير أن المراجعات التي تذهب إلى ذلك المدى الذي تتحول فيه المراجعة إلى إتهامات ظالمة تتوسل تلفيقات لا صلة لها بالحقيقة ، تخطئ مرتين : مرة حينما تبدو مدافعة عن أنظمة الفساد التي أهدرت فرص البناء والنهوض الاجتماعي لصالح بناء الثروات الخاصة للنخب الحاكمة ، والثانية حينما تفتقر إلى الموضوعية في التقييم باستخدام الأدلة على نحو معاكس .
كل ما نحتاج إليه هو النقاش الموضوعي بدلاً من مواصلة التنكيل بالرأي الذي يمارس من هنا وهناك ، وخاصة من قبل أؤلئك الذين حملتهم سفينة الثورة وفرقتهم بعد ذلك الأمواج التي أحاطت بها وضربتها بشدة .
لا يمكن بأي حال أن نضع هذه الثورة الخالدة تحت مجهر لا يسمح برؤيتها إلا من خلال شخص أو أشخاص أو مجموعة أو فئة ، أو أي عنوان من العناوين الاعتباطية التي يحاول البعض أن يحشرها عنوة كرديف لعنوان الثورة ، ليحكم عليها أو يبرر الاساءة لها تبعاً لذلك .
المجهر الوحيد المنصف هو الذي لا مكان فيه لهذه العناوين الفرعية والصغيرة .. المجهر الذي يبرز اللوحة الهائلة لحاجة هذا البلد للتغيير ، والذي طالما حلم به شعب مكافح وقدم التضحيات الكبيرة من أجله .
سيبقى فبراير عنواناً ضخماً وبارزاً لقوة التغيير التي ستعيد اليمن إلى أيدي الشعب . وما يشهده اليمن اليوم من مأساة إنما هو بسبب مقاومة الرافضين لهذا التغيير ، ومحاولة مواصلة فرض قبضتهم عليه بقوة السلاح ، ومن وراء ذلك كل عناوين الجمود المعبرة عن “سلطات” إفتراضية مقوضة لكل حلم بالتغيير .