أحمد عبداللاه /
أدركت المملكة أن تعقيدات الملف اليمني لا يمكن مقاربتها من خلال معادلة رياضية بسيطة بمجهول واحد، ولهذا تدفع نحو سلام الخروج، سلام خاص بها مع أنصار الله، بالتوازي مع تحركاتها المتعددة (قبل حرب غزة) لاحتواء ملفات المنطقة في عملية قد تبدو محاولة للتغيير في البيئة الجيوسياسية وبناء ما تعتبره نظام إقليمي جديد. لكن من يتتبع تاريخ المملكة في إدارة ملفات إقليمية يدرك بأن العملية معرضة للفشل، وأنها من ناحية أخرى تظل بحاجة ماسة إلى الحماية الكاملة من خلال صفقة كبرى تسعى إليها مع حليفها التاريخي, الولايات المتحدة.
استكمال بروتوكولات الخروج من عاصفتها لا يبدو متاح بصورة نهائية. لأن “أنصار الله” ومن خلفهم إيران لن يتخليا عن حصاد حقيقي لتسع سنوات حرب بمجرد توقيع اتفاق يتغير بعده دور المملكة من قائدة تحالف الى مجرد وسيط باعتبار ذلك سابقة غير معهودة في تاريخ الحروب. كما أن الملفات الإقليمية متشابكة ومتداخلة بصورة عضوية بما في ذلك المتغيرات الممكنة في خارطة التحالفات وجهود التطبيع مع إسرائيل التي تجمدت بفعل الحرب على غزة. كلها قضايا لا يمكن عزلها عن بعض، فالاعتقاد أن المملكة تستطيع إغلاق ملف بعينه بصورة نهائية و التفرغ لما يليه أمر شديد السطحية.
الجميع يدرك الآن أن من قاد تحالف كبير و لم يستطع هزيمة مليشيات انقلابية كما وُصفت، فإنه لا يحتاج بالضرورة الى سلاح أو حروب، وإنما إلى حماية مستمرة من “الحليف” وإلى وسطاء من الطراز العُماني المتخصص في ترويض خصوم آيات الله، وإلى رشاوي مالية ضخمة، وبالطبع يحتاج ايضاً الى عكاظية إعلامية لتبرير الخيبات وتغيير المظاهر الدرامية على مسرح السياسة.
حين كان “أنصار الله” يثبّتون أقدامهم على الأرض و يطورون قدراتهم ومهاراتهم العسكرية ويسعون بكل جهد لحيازة انظمة اسلحة استراتيجية وجمع الأموال واستبدال البنية الثقافية للمجتمع وتغيير مناهج التعليم وتوسيع دائرة التأثير الفكري على عامة الناس، كانت الشرعية، التي لعبت دور ناقة البسوس في حرب الزير سالم، منهمكة على توزيع المناصب وتضخيم الجهاز البيروقراطي، وظل أعلامها بصورة موازية يغني على رؤوس المنكوبين نشيد الأقاليم (٥+١) والدولة الاتحادية المدهونة بزيت التحنيط
في أيلول الأخير واجه أنصار الله بقوة الموجة الاحتفالية العفوية للشباب بعيد الثورة ليثبتوا للعالم بأن الجمهورية ممنوعة في شوارع صنعاء وأن السلطة حوثية صرفة، و لا شراكة فيها إلا وفق مقاييس الطاعة والولاء لمولاها السيد الجديد الذي سيقود تغييرات جذرية لإظهار ملامح الدولة الدينية الجديدة ليس على النمط الكلاسيكي للمتوكلية الهاشمية وإنما على مسيرة آية الله صانع فكرة الثورات المصدّرة إلى مشارق العرب و مغاربهم.
الشمال قادم إذن، لكن ليس إلى دولة سبتمبر أو إلى دولة ٢٢ مايو وإنما إلى مدارج عصر غامض. انه قادم بصناعة محلية وبتسليم إقليمي و دولي. قادم تذرو رياحُه رمادَ الهاربين الذين أعلنوا في ٢٠١٤ أنهم “لن يواجهوا أنصار الله في صنعاء” و”لن يُستدرجوا لأي صراع”، ثم أعلنوا في أوج العاصفة بأنهم “لن يدخلوا صنعاء”، وفي مكان آخر “لن يدخلوا الحديدة” حتى تعمق الحرف الناصب “لن” في روح المحاربين فاتخذوا سبيلهم نحو التراجع، تبتلعهم صحاري الانسحابات شرقاً وأمواه التنازلات غرباً. ومنذ ذلك التراجع الكبير ما يزال البحث جار عن تحديث مبررات صالحة للاستهلاك الإعلامي، متناسين بأن لا شيء أسوأ من الهزيمة سوى تبريرها.
يثبت أيلول في كل عام منذ ٢٠١٤، أن القوى اليمنية القديمة قد أضاعت ما تبقى من الجمهورية وأضاعت ما تبقى من شكل الوحدة، ولم يعد لها وزن يمكن الرهان عليه، وأنها بعيدة عن تحقيق أي هدف، سلماً أو حرباً، يمكنه تقويض أو حتى تقييد سلطة صنعاء.
في المحصلة يظل سؤال الأسئلة: لماذا قد تقبل السعودية (من خلال صفقة سلام هش) بشمال طائفي قوي بينما تسعى في الوقت ذاته بشتى الوسائل لإضعاف الجنوب وتجزئته؟