عندما أراد أهل الجنوب “إدارة” مناطقهم، وفي توقيت صعب وشاق، ولّعت الدنيا وتنادت الأحزاب والأمصار وتصاعد الغبار وشق المهدي بياته السردابي، واقترب ظهور البقرة الأرثوذوكسية الحمراء تبشر بقدوم يوم الرب، و(تبرطعت) قطعان الإعلاميين الرّحّل بين المضارب والمآرب وضجّت البيانات بعبارات متناسخة مضجرة.. وأشهرت الحسينيات والموالد حسراتها على يمن الرفاهية والاستقرار. حتى الحزب الاشتراكي (المجفف) أصبح لا يسمع لا يرى لا يتكلم الا حين توقظه (فرقة حسب الله) باتجاه عدن فلم يتبق شيء من ذاكرته سوى اتّباع حمية “اللقاء المشترك” والحفاظ على المخ المغسول بنظرية البقاء الممكن في حالة الانكماش الحيوي، التي تقنعه بان السحلية المستدامة هي حفيدة الدناصير المنقرضة.
كثيرون أولئك الذين ادمنوا الصمت حين تحولت عدن إلى عاصمة للبشرية البائسة اليائسة الزاحفة إليها من كل حدب وصوب، وحين تراكمت المصائب على كاهلها وانطفأ سراجها وجفّ ماؤها وساد ظلامها وتم تنضيب روحها ووجدانها وتزوير حقائقها من خلال ماكينات الإعلام المتوحش والموجه لتبرير الموت والفساد وحين تحولت إلى خيمة سوداء تذروها رياح الخوف بعد أن سيقت إليها فرق الارهاب وكتائب الإعدام الميداني، وحين تحولت إلى عاصمة للحميّات ومستودع الجوع والظمأ ومخزن الرعود المنفلتة ومتسع للعواصف، وشقت الأخاديد وجهها الجميل وتثاقل الزمن المقرف في حارات صبرها. وكانوا يعلمون أنها وُضعت أمام خيارين: أن تحيا بقبضة الإخوان وتنظيم القاعدة، عن طريق غزو القلعة من داخلها بإسم الشرعية، أو أن تموت بصفتها الجنوبية.
أليس هذا هو التطبيق العملي لشعار “الوحدة أو الموت”؟ لقد مارسته حكومة الإخوان بطريقة معلنة بهدف تحويل تضحيات الجنوب في حرب ????م إلى وسيلة لإعادة تركيب تحالف حرب ??م (مع بعض تنزيلات “الربيع”).. وكأن الجنوبيين بذلوا دماءهم هذه المرة لتحسين شروط موتهم فقط.
كل ذلك لم يحرك الساسة الواعظين خلال السنين الموجعة التي مرت دون غيث حقيقي وإنصاف وإسناد بل، عوضاً عن ذلك، ذهبوا لتقبل الأمر الواقع في صنعاء ولم يعد أحد منهم يتذكر الخطابات الشائطة في بداية الزفّة وكيف صيغت وتفاقمت ثم تكسرت إلى حروف جارحة باتجاه عدن تتنقل بين حناجر الموهوبين في الشتائم والهزائم.
حتى الأحرار والمثقفون والليبراليون يصبحون أكثر شجاعة وفصاحة ضد الجنوبيين حين يتخذون خطوة نحو استعادة حريتهم. فتدهشنا البيانات السياسية الخائفة على اليمن واستقراره وجمهوريته. وحين يأتي الحديث عن قتلهم والتنكيل بهم أو عن حقهم الطبيعي في الإختيار يتراجع الشجعان عن وضوح نبرتهم فتظهر وظيفة “العقل المتجسد” في وعاء خارج الجمجمة من خلال اللغة الملتبسة بمجازاتها المشقلبة وعباراتها المدورة، ورطانة تضع القارئ وسط حقل من المرايا المتعاكسة.
لقد تبين من مجريات هذه الحرب أن من ينهزم شمالاً يبحث عن نصر في الجنوب، ومن يختنق شمالاً لا يجرؤ أن يفتح هناك نوافذ للهواء الطلق بل يفكر كيف يتنفس جنوباً، ومن يتعايش مع القبضة الحديدية وقواعد الاقتصاد الحربي وتكميم الأفواه في صنعاء… يبحث في عدن عن حريته غير المنقوصة.
أضاعوا اليمن في صنعاء وذهبوا يبحثون عنه في عدن.. أحرقوا الوحدة للمرة الثانية وبشكل نهائي في صنعاء ويحاولون جمع دخاخينها وإعادة نفخ روحها من عدن! ليس هذا فحسب، بل أن كل منهم لا يبحث عن (ليلاه المفترضة) إلا في عدن. الاشتراكيون والقوميون والإسلاميون والليبراليون والبرمائيون المتعددو المهارة في الحركة وكل من تهب رياحه وتياراته يرى في أن تصبح عدن وعاءً يملؤه بمشاريعه ونموذجاً يشبع هواه وانتمائه وأيديولوجيته، وتكون قادرة على تلبية احتياجات الأحزاب والطوائف والباحثين عن السلطة والوحدة والجمهورية.. حتى الهواة والغواة ومن لا يظهر إلا في مهرجانات النحيب… كل منهم (يفصّل) عدن على قدر خياله السياسي ووفقاً لمصلحته. بل أن الإخوان والحوثيين في المقدمة يتسابقون على عدن ليس من أجل ما يقولونه في خطابهم، وانما للظفر بها ليتم إهداء بحرها لمولاهم الذي يعيد تدوير الأمة إبتداءً من الصفر الفلكي نحو قيامة الخلافة والولاية الجديدة في عالم الشرق.
لهذا.. إخوتنا في الشمال، قواه الوطنية و نُخبه وشرائحه المستنيرة، بحاجة إلى مراجعات كثيرة وإلى كسر طوق “المسلمات السياسية” الخاطئة التي تحولت من فرط التلقين منذ عقود إلى صور ثابتة في محتويات اللاوعي واصبحت جزء من “قناعات راسخة لا تقبل التفكير بها” رغم مخالفتها لأحداث التاريخ والواقع والحياة.
الجنوب اليوم يعيش مخاض الخروج التاريخي من أزماته بعد تجارب مرة منذ الاستقلال ولن يبحث مجدداً في تفاصيل الأيديولوجيات ولا في الصراعات الإقليمية عن مكانة وصفة بل يبحث من خلال تضحياته عن حريته واستعادة دولته، وعن الروابط الحقيقية النقية مع إخوته في الشمال وعن مستقبل مشترك يعيد تصحيح ما خربته أزمنة الوحدة القسرية وحروبها.
احمد عبد اللاه